بوابة مصر الجديدة

إطار مرجعي لإدارة المياه.. سوريا تنضم إلى مبادرة “السلام الأزرق”

انضمت سوريا مؤخرًا بشكل رسمي إلى مبادرة “السلام الأزرق” في الشرق الأوسط، مشكّلة بذلك نقطة تحول في مقاربة أحد أكثر الملفات حساسية في المنطقة، وهو ملف المياه، بما يحمله من تشابكات سياسية وبيئية واقتصادية عابرة للحدود.

فالخطوة، التي تم استكمالها في 15 من كانون الأول الحالي، خلال الاجتماع الرابع المشترك للجنة الاستشارية للسياسات واللجنة الإدارية للمبادرة، الذي انعقد في بيروت، تأتي في توقيت بالغ الحساسية، إذ ترتبط سوريا بملفات مائية حساسة مع دول الجوار، ويشكل مستقبل إدارة هذه الموارد أحد المفاتيح الأساسية للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في مرحلة ما بعد الحرب.

ويتيح لها هذا الانضمام نقاشًا أوسع حول إمكان تحويل المياه من عامل هشاشة إلى رافعة تعاون إقليمي، وحول حدود السياسة ودور المعرفة والتقنية والمجتمع في صياغة مستقبل مائي أقل صدامية وأكثر استدامة.

من عامل صراع إلى أفق تعاون

تنطلق مبادرة “السلام الأزرق”، المدعومة من الحكومة السويسرية وبشراكة مع مؤسسات بحثية ودبلوماسية في جنيف وستوكهولم، من منطلق “دبلوماسية المياه بدل منطق القوة”، فهي لا تقوم على اتفاقيات ملزمة بالمعنى القانوني، بل على بناء مرجعية معرفية وأخلاقية لإدارة الموارد المائية المشتركة، عبر الحوار، وتبادل الخبرات، وإشراك المجتمعات المحلية، وتطوير حلول تقنية تقلل من احتمالات الصدام.

ويوضح الدكتور المحاضر في المعهد العالي للتخطيط الإقليمي، معن دانيال داود، أن النزاعات المرتبطة بالموارد الطبيعية، ولا سيما المياه، لا تنشأ فقط من ندرتها، بل من سوء إدارتها، ومن التعامل معها بمنطق سيادي ضيق يتجاهل الطبيعة المشتركة للأحواض المائية.

وأظهرت التجارب الدولية، ولا سيما الأوروبية، أن الأنهار المشتركة يمكن أن تتحول من خطوط تماس إلى مساحات مصالح متبادلة، عندما تدار وفق منطق العوائد المشتركة تقاسم المنافع الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات الممتدة على طول المجرى المائي، لا منطق السيطرة.

ويؤكد داوود، أن المبادرة لا تغير سياسات الحكومات بشكل مباشر، لكنها تعمل على المدى البعيد عبر تأثيرات تراكمية، تخلق وعيًا مختلفًا بطبيعة المورد المائي، وبأن أعالي الأنهار وأوسطها وأسافلها تشكل نظامًا واحدًا، يتأثر كله عندما يختل جزء منه.

ومع تسارع آثار التغير المناخي، تصبح هذه المقاربة أكثر إلحاحًا، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي تعد من أكثر مناطق العالم تضررًا من التغير المناخي، رغم أنها من الأقل مساهمة في أسبابه، وفقًا لداوود.

سوريا في قلب الإشكالية المائية

تكتسب مشاركة سوريا في المبادرة أهمية خاصة، بحكم موقعها الجغرافي في قلب أحواض مائية كبرى، أبرزها حوض الفرات ودجلة، وفق ما بينه، معن داوود، لافتًا إلى أن نهر الفرات يشكل المصدر المائي الأساسي لأكثر من 40% من سكان سوريا، سواء لمياه الشرب أو الزراعة أو الصناعة، في وقت تعاني فيه البلاد أصلًا من عجز مائي بنيوي تفاقم بفعل الحرب، وسوء الإدارة، والتغير المناخي.

وتشير تقديرات فنية، عرضها داوود، إلى أن الواردات المائية لنهر الفرات قد تنخفض، مقارنة بالمعدلات التاريخية، نتيجة تراجع الهطل وتغير أنماط تشكل الثلوج في مناطق المنابع، وهو ما يعني أن استمرار الإدارة التقليدية للمياه سيقود حتمًا إلى أزمات أعمق، سواء على مستوى الإنتاج الزراعي أو الأمن الغذائي أو الاستقرار الاجتماعي.

من هنا، يرى داوود أن التعامل مع الملف المائي لا يمكن أن يبقى أسير الخطاب السياسي أو الاتهامات المتبادلة بين الدول، بل يجب أن ينتقل إلى مستوى تقني ومعرفي، يبحث في كيفية تحقيق إنتاجية أعلى بموارد أقل، وفي إعادة هيكلة أنماط الزراعة والاستخدامات المائية بما يتلاءم مع الواقع المناخي الجديد.

مبادرة غير ملزمة.. لكنها مرجعية

على الرغم من أن مبادرة “السلام الأزرق” تصنف ضمن المبادرات غير الملزمة قانونيًا، فإن داوود يعتبرها إطارًا مرجعيًا مهمًا، لأنها تضع مبادئ أساسية لإدارة المياه، منوهًا إلى أن مثل هذه المبادرات تصبح ذات وزن حقيقي عندما تتحول إلى أداة ضغط معرفي ومجتمعي، تفرض نفسها على صانع القرار عبر تراكم الوعي العام.

ويذكر داوود بأن لسوريا تاريخًا سابقًا مع المبادرة، إذ كانت من الدول المطروحة لتكون مركزًا إقليميًا لها قبل عام 2010، وشاركت في أنشطة تقنية وبحثية مرتبطة بها منذ عامي 2007 و2008، بالتعاون مع مؤسسات دولية مثل “جايكا” و”جي آي زد” والمعاهد السويسرية والسويدية لأبحاث المياه، إلا أن قرارات سياسية، حالت دون انضمامها الرسمي آنذاك، رغم توفر الفرصة.

وفي ظل واقع إقليمي شديد التعقيد، لا تبدو مبادرة “السلام الأزرق” حلًا سريعًا لأزمات المياه في سوريا والمنطقة، لكنها تفتح نافذة لإعادة التفكير في الملف من زاوية مختلفة، ترى في المياه فرصة للتلاقي بدلًا من الصدام.

اتفاقية سورية- أممية لدعم متضرري الجفاف

الواقع المائي في سوريا

تفاقمت أزمة المياه في سوريا نتيجة الحرب الممتدة منذ عام 2011، التي دمرت البنية التحتية المائية، إلى جانب الجفاف المتكرر، ما جعل البلاد تواجه واحدة من أشد أزمات المياه منذ عقود.

فقد شهد عام 2025 أسوأ ظروف جفاف منذ 36 عامًا، وفقًا لتقرير منظمة الغذاء والزراعة (FAO)، إذ يعاني نحو 10 ملايين شخص صعوبة الوصول إلى المياه الصالحة للشرب، مع عجز في إنتاج القمح يصل إلى 2.7 مليون طن، يؤثر على 16.2 مليون شخص.

وأظهرت دراسة في “SCIRP” أن الصراع والجفاف قللا كمية المياه المتاحة في شمال غرب سورية إلى النصف، مع تدهور جودتها بسبب التلوث، مما أدى إلى انتشار الأمراض المنقولة بالمياه بنسبة 30% في بعض المناطق.

ويحذر تقرير تحليلي صادر عن مركز “كارنيغي” للشرق الأوسط من أن تغير المناخ يوسع الفجوة بين العرض والطلب على المياه، مما يفاقم الصراعات في سورية، ويتوقع انخفاض إجمالي إمدادات المياه بنسبة 20% بحلول عام 2050، ما يجعل ندرة المياه عاملًا رئيسيًا في استمرار الصراع.

وتتشارك سوريا عددًا من الأنهار العابرة للحدود مع دول الجوار، في مشهد مائي معقد تحكمه الجغرافيا والسياسة معًا.

فعلى الحدود الغربية، تتقاسم دمشق الموارد المائية مع لبنان عبر نهري العاصي والكبير الجنوبي، فيما يشكل نهر اليرموك شريانًا مائيًا مشتركًا مع الأردن جنوبًا، بينما تعتمد سوريا في شرقها وشمالها الشرقي على نهري دجلة والفرات القادمين من تركيا ويمران عبر العراق.

وقد نظمت هذه الأنهار مجموعة من الاتفاقيات الثنائية بين الدول المتشاطئة، هدفت إلى ضمان تقاسم المياه وفق حصص محددة.

غير أن هذا الإطار القانوني يصطدم اليوم بواقع مائي متدهور، تفاقم خلال سنوات الحرب الطويلة، إذ أقرت وزارة الموارد المائية بأن القطاع المائي ورث بنية تحتية متهالكة، انعكس تضررها على قطاعات حيوية، أبرزها مياه الشرب وتوليد الكهرباء.

ومع تصاعد آثار الجفاف وتغير المناخ، باتت الوزارة تواجه تحديات متزايدة، أبرزها الحاجة إلى إعادة النظر في الاتفاقيات المائية مع دول الجوار بما يتوافق مع الواقع الهيدرولوجي الجديد.

وفيما يخص نهر الفرات، تؤكد دمشق التزامها بتمرير الحصة المائية المخصصة للعراق وفق الاتفاقيات الموقعة، فيما تعهدت تركيا بموجب الاتفاقية السنوية بتأمين معدل تدفق لا يقل عن500  متر مكعب في الثانية عند الحدود السورية – التركية، مع تعويض أي نقص شهري لاحق.

ويستند هذا الترتيب إلى اتفاقية عام 1987، إلا أن الكميات الواردة تراجعت إلى أقل من النصف عقب موجة الجفاف عام 2021 وارتفاع درجات الحرارة خلال السنوات الخمس الماضية، ما أثر بشكل مباشر على الزراعة وإنتاج الكهرباء في السدود، وتراجع إنتاج الكهرباء من سد الفرات بنسبة 60%، وسط اتهامات لتركيا باستخدام المياه كورقة ضغط سياسي على حكومة النظام السابق.

جنوبًا، شكّلت الاتفاقية الموقعة بين سوريا والأردن بشأن التوزيع العادل لمياه حوض اليرموك خطوة نحو احتواء واحدة من أقدم نقاط الخلاف بين البلدين، ويستند هذا التعاون إلى اتفاقية عام 1987، التي تتضمن مراجعات دورية لمراعاة المتغيرات المناخية.

وعلى الحدود الغربية، تربط سوريا ولبنان عدة اتفاقيات مائية، أبرزها اتفاقية تقاسم مياه نهر العاصي لعام 1994، واتفاقية عام 2002 الخاصة ببناء سد على النهر الكبير الجنوبي، بهدف تخزين المياه وتوزيعها.

وتندرج هذه التفاهمات ضمن إطار أوسع من التنسيق الاقتصادي والمائي، يسعى لإدارة الموارد المشتركة، في ظل هشاشة متزايدة تطبع الأمن المائي في المنطقة، كما يفاقم تدهور جودة المياه بسبب التلوث الصناعي والزراعي أزمة مياه الشرب في غربي سوريا.

فيما ساهمت التدخلات العسكرية الخارجية، بما فيها الضربات الجوية الإسرائيلية، في تعقيد المشهد المائي بعد تدمير نحو15%  من محطات ضخ المياه في القنيطرة منذ عام 2020، وتأثر الإمدادات في المناطق الريفية.

ويضاف إلى ذلك أثر العقوبات الدولية السابقة التي حدت من استيراد معدات إصلاح البنية التحتية، ما عاق جهود إعادة التأهيل في قطاع المياه.

أخبار متعلقة :