بوابة مصر الجديدة

المساكنة الصعبة.. والزواج المستحيل

غزوان قرنفل

يبدو المشهد السوري الراهن وكأنه يقف عند مفترق طرق حاسم، حيث تتقاطع المشاريع السياسية والعسكرية عند نقطة واحدة، لكنها سرعان ما تتباعد في الاتجاهات والغايات. ومن بين أكثر هذه التقاطعات تعقيدًا وإشكالية، تبرز العلاقة بين رؤية ومشروع السلطة الانتقالية السورية للدولة كما يُطرح في الخطاب السياسي الرسمي، وبين مشروع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، علاقة يُراد لها أن تقدَّم بوصفها شراكة ممكنة أو تفاهمًا قابلًا للبناء عليه، لكنها في جوهرها أقرب إلى “زواج مستحيل” بين رؤيتين متناقضتين للدولة، والسلطة، وشكل الحكم، وطبيعة السيادة.

فالسلطة الانتقالية تتبنى رؤية تقوم على تصور تقليدي للدولة شديدة المركزية، وتعتبر أن استعادة هيبة الدولة ووحدتها لا يمكن أن تتحقق إلا عبر مركز قوي يحتكر القرار والفعل السياسي والأمني والعسكري، وتذوب تحت رايته جميع التشكيلات المسلحة، والهويات الفرعية، والمكونات الطائفية والقومية والسياسية حتى دون مجرد الاتفاق على شكل الدولة التي يفترض أن يخضع لسلطتها كل هؤلاء. ففي هذا التصور لا مكان لتعدد مراكز القوة، ولا لهوامش واسعة من الاستقلال المحلي، لأن ذلك، وفق منطق هذا المشروع، يشكل تهديدًا مباشرًا لوحدة البلاد، ويفتح الباب أمام الفيدرالية أو التفكك، وربما حتى الانفصال.

في المقابل، ينطلق مشروع “قسد” من تجربة مختلفة تمامًا، تشكلت في سياق الحرب، وراكمت واقعًا سياسيًا وعسكريًا وإداريًا خاصًا في شمال شرقي سوريا، هذا المشروع لا يطالب، على الأقل في خطابه المعلن، بالانفصال أو إقامة دولة مستقلة، لكنه يتمسك باللامركزية بوصفها حدًا أدنى لا يمكن التنازل عنه.

واللامركزية وفق تلك الرؤية، لا تختزل في إدارة خدمية أو صلاحيات بلدية محدودة كما تسوقها السلطة الحالية، بل تمتد لتشمل القرار الأمني والعسكري، عبر الاحتفاظ ببنيتها العسكرية كقوة منظمة تعمل تحت مظلة الدولة السورية اسميًا، لكن دون تدخل فعلي من الجيش أو وزارات الدفاع والداخلية في شؤونها.

وهنا تتجلى الاستحالة، فالدولة شديدة المركزية بطبيعتها لا تقبل وجود قوة عسكرية وأمنية موازية، حتى وإن رفعت فوقها لافتة “العمل تحت ظل الدولة”، كما أن أي سلطة انتقالية تسعى لتكريس شرعيتها داخليًا وخارجيًا، ستجد نفسها مضطرة، عاجلًا أم آجلًا، للمطالبة باحتكار السلاح، وتوحيد القرار الأمني وفرض تسلسل قيادي واحد. وفي المقابل، ترى “قسد” في التخلي عن استقلاليتها العسكرية والأمنية مغامرة وجودية، تهدد مكتسباتها وتعرّض مناطق نفوذها ومكوناتها الاجتماعية، لمخاطر سياسية وأمنية لا تثق بأن المركز قادر أو راغب في تجنبها.

ضمن هذا السياق، جاء اتفاق 10 آذار ليخلق حالة مساكنة وليقدم بوصفه خطوة نحو الحل، غير أن القراءة المتأنية لمضامينه، وسياقه السياسي تكشف أنه اتفاق بالغ الهشاشة، يصعب تنفيذه فعليًا لأنه يتجنب جوهر الخلاف ولا يقترب منه، فهو يتجنب الإجابة عن الأسئلة الصعبة ولا يحسم شكل الدولة وهل ستكون مركزية أم لا، ولا يحدد بوضوح صلاحيات المركز وصلاحيات الأقاليم أو المحافظات، كما أنه يرحّل الأسئلة الكبرى المتعلقة بالجيش والأمن والدستور، مكتفيًا بصياغات عامة وفضفاضة، قابلة لتفسيرات وتأويلات متناقضة.

بهذا المعنى لا يبدو اتفاق 10 آذار اتفاقًا لحل الأزمة، بقدر ما هو أداة لإدارتها، ووسيلة لشراء الوقت وتأجيل الصدام. هو حقًا هدنة سياسية وعسكرية مؤقتة بين مشروعين غير قابلين للاندماج في صورتهما الراهنة التي تبقي التناقضات قائمة، لكنها تؤجل لحظة الصدام ريثما تتغير موازين القوى، أو تنضج ظروف إقليمية ودولية جديدة، لكن التاريخ يعلمنا أن الاكتفاء بإدارة الأزمة دون حلها، لا يلغي الانفجار، بل يؤجله لكنه يجعله أكثر عنفًا حين يقع.

إن الحل النهائي والجدّي لا يمكن أن يفرض فرضًا بقوة السلاح، ولا أن يختزل في اتفاقات ثنائية أو تفاهمات أمنية، بل يبدأ بالإجابة الواضحة عن كل الهواجس والأسئلة الصعبة، وبالاعتراف بأن سوريا بعد كل ما جرى لم تعد قادرة على العودة إلى نموذج الدولة المركزية الصلبة، كما أنها لا تحتمل في الوقت نفسه تعدد الجيوش والسلطات المتوازية.

ما تحتاج إليه سوريا هو حوار وطني معمق، يعاد فيه طرح الأسئلة المؤجلة، ما شكل الدولة وما شكل نظام الحكم فيها؟ وما حدود صلاحيات المركز؟ وما الذي ستحصل عليه المحافظات أو الأقاليم من صلاحيات ومن حصة عادلة من الموارد والثروة الوطنية؟ وكيف تدار هذه الموارد والثروات الوطنية، للخروج بتوافقات وطنية بشأنها، لكن هذه التوافقات لا يمكن أن تنتج بحوار القذائف والرصاص، بل بحوار وطني واسع تشارك فيه جميع القوى والمكونات السياسية والمجتمعية، دون إقصاء أو احتكار ينتهي إلى ثوابت دستورية غير قابلة للعبث، لا مجرد وعود مؤقتة أو تفاهمات هشة.

دون ذلك، سيبقى “الزواج” بين مشروع السلطة الانتقالية ومشروع “قسد” زواجًا مستحيلًا، محكومًا بالفشل، مهما طال أمد المساكنة، ومهما كثرت البيانات والاتفاقات المؤقتة، وفي غياب حل جذري ستظل سوريا تدور في حلقة مفرغة من الأزمات المؤجلة والانفجارات القاتلة، كل انفجار يستولد انفجارًا جديدًا، يدفع فاتورته السوريون جميعًا.

اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا

إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى

أخبار متعلقة :