بوابة مصر الجديدة

أطفال سوريون يرثون الاستقطاب السياسي من الكبار 

عنب بلدي – شعبان شاميه

في البيئات التي تعيش أزمات سياسية ممتدة، لا يعود الطفل متلقيًا سلبيًا لما يجري حوله، بل يصبح جزءًا من المشهد النفسي والاجتماعي للأزمة.

فالسياسة، وإن بدت شأنًا خاصًا بالكبار، تتسرب إلى وعي الطفل عبر اللغة اليومية والإعلام والمدرسة، وحتى الصمت المشحون بالخوف أو الغضب داخل الأسرة.

وهنا تبرز خطورة ما يُعرف بـ”التربية السياسية غير الواعية”، التي قد تصنع جيلًا يحمل مواقف حادة قبل أن يمتلك أدوات الفهم النقدي.

ميرنا (39 عامًا) أم لثلاثة أطفال من محافظة حمص، قالت لعنب بلدي، إنها تواجه تحديًا حقيقيًا في الإجابة عن أسئلة أطفالها منذ سقوط النظام نهاية عام 2024، إذ كثر الاستقطاب السياسي والطائفي في المجتمع السوري، وبات الطفل معرضًا يوميًا لمواقف ومفردات تُثير فضوله وربما استغرابه ويحاول إيجاد إجابات عنها.

وأضافت ميرنا أنها واجهت مع أطفالها أسئلة حول التغييرات الطارئة على علَم البلاد، والتوقف عن ترديد النشيد السابق في المدرسة، ومحتوى الفعاليات والنشاطات المدرسية، إضافة إلى مصطلحات مثل “الفلول” و”الجهاديين”، وأغانٍ وتقسيمات تحمل طابعًا طائفيًا لا نستطيع نكران اقتحامها لمسامع الأطفال، الذين بدورهم يحاولون فهم ما يحصل ويدور حولهم.

تسعى ميرنا باستمرار لإيضاح الصورة لأطفالها، والتغييرات الحاصلة، دون وصاية أو فرض لمواقفها وقناعاتها عليهم، بحسب قولها، في حين أنها تتعامل بحذر شديد مع هذا الموضوع، من خلال تكريس الاختلاف كحالة صحية، إضافة إلى تنمية مفاهيم المواطنة والعدل والحرية وقبول الآخر.

وتعتبر أن الأهل اليوم يتحملون المسؤولية تجاه بعض الممارسات الخاطئة التي ينقلها أطفالهم إلى المدارس، والتي قد يكون مصدرها أحاديث الأهل أنفسهم أو مواقع التواصل الاجتماعي التي يسمح لهم باستخدامها دون أي رقابة.

ويرى خالد (44 عامًا)، مدرّس لغة عربية من مدينة بانياس بريف محافظة طرطوس، أن التوجيه السياسي في عهد النظام السابق كان له دور كبير في تكريس العقائدية السياسية، بسبب قوالب جاهزة كان الطفل يتلقاها منذ المرحلة الابتدائية، أسهمت في تشكيل تصوره السياسي الأحادي الذي ساعد في إنتاج رؤية سياسية واحدة تقوم على الإقصاء والخوف من أي تيار حزبي أو سياسي مغاير لتيار السلطة.

وقال خالد، إن التربية السياسية يجب أن تترافق بقدر من المسؤولية النفسية والاجتماعية للأسرة والمدرسة، إذ يجب أن يتمتع الآباء والمعلمون بقدر من الوعي السياسي، ليس فقط من خلال غرس روح الحوار والتسامح مع الأطفال، ولكن أيضًا من خلال اتباع نماذج سلوكية سياسية سليمة، بحيث يصبح الآباء والمعلمون قدوة من حيث طريقة ممارسة سلطتهم، وتجنب وسائل إكراه الطفل وإذلاله حتى لا يستسلم لوسائل القهر التي من الممكن أن يتعرض لها عندما يكبر، وحتى لا يمارسها هو نفسه على المحيطين به إذا أصبح في منصب قيادي.

ويعتبر خالد أن التربية السياسية للأطفال إيجابية إذا اعتمدت على نشر أجواء من الإحساس بالأمن والاطمئنان والحب لدى الأطفال، لكي تنعكس لاحقًا على قدرتهم على التعايش والتسامح، إلى جانب تعزيز مبادئ العدل والحرية والمواطنة من خلال معايشة حقيقية داخل الأسرة والمدرسة عن طريق استنباط وسائل تشاركية أو رحلات جماعية أو حتى تكليف بوظائف منزلية أو اجتماعية تقوم على مبدأ التعاون مع الغير، وفق ما ذكره لعنب بلدي.

متى تبدأ التربية السياسية؟

من الناحية النفسية، تبدأ ملامح التربية السياسية في سن مبكرة جدًا، منذ السنوات الأولى من الطفولة (3–5 سنوات)، حين يبدأ الطفل بفهم مفاهيم أولية مثل: القوة، العدل، الظلم، الانتماء، العدو، الخوف، وفق ما أوضحته الاستشارية النفسية الأسرية الدكتورة هبة كمال العرنوس، لعنب بلدي.

هذه المفاهيم، بحسب العرنوس، لا تُدرَّس بشكل مباشر، بل تُكتسب عبر:

  •  حديث الأهل أمام الطفل.
  •  ردود فعلهم تجاه الأخبار.
  •  طريقة وصفهم للأشخاص والجهات.
  •  مشاعر القلق أو الكراهية أو الفخر التي يلاحظها الطفل.

ويرى الباحث الأكاديمي المتخصص في التربية والسكان والتنمية الدكتور ياسر محمد علوش، في حديث إلى عنب بلدي، أن التربية السياسية لا تعني الحديث عن الأحزاب أو السلطة، بل تعني تنمية الحس بالعدالة والحوار واحترام الرأي الآخر والقدرة على اتخاذ موقف، وبالتالي ليست تلقينًا لمواقف، بل تدريب على التفكير، وليست انتماء لحزب، بل انتماء للكرامة والعدالة.

وتبدأ التربية السياسية، وفق علوش، بشكل غير مباشر منذ الطفولة المبكرة، عبر الملاحظة والتقليد، ثم تتبلور تدريجيًا في مرحلة الطفولة المتوسطة (7–12 سنة) من خلال الحوار والقصص والمواقف اليومية.

وقال علوش، إن المسؤولية تقع على عاتق الأسرة أولًا، ثم المدرسة والإعلام، والمجتمع المدني، باعتبارهم يشكّلون البيئة الأساسية التي يتكون فيها وعي الطفل السياسي.

ولفتت الاستشارية النفسية الأسرية إلى أن التربية السياسية غالبًا ما تتم بشكل غير مقصود، وهنا تكمن الخطورة، لأنها تترك آثارًا عميقة وطويلة الأمد.

التربية السياسية والتلقين الحزبي

ذكرت العرنوس أن التربية السياسية السليمة نفسيًا لا تعني تعليم الطفل مواقف سياسية جاهزة، بل بناء عقل قادر على الفهم والتمييز، وهي تقوم على:

  • تعزيز قيم إنسانية عامة: العدالة، احترام الاختلاف، الحوار، نبذ العنف.
  •  تعليم الطفل التفكير النقدي لا الاصطفاف.
  •  الفصل بين الوطن والسلطة والحزب.
  •  احترام حق الطفل في السؤال دون تخويف أو إسكات.

أما التلقين الحزبي أو الأيديولوجي، بحسب العرنوس، فيتميز بـ:

  • تقديم طرف واحد بوصفه الحق المطلق.
  • شيطنة الآخر.
  •  استخدام لغة التخوين أو القداسة.
  •  ربط الحب والانتماء بشخص أو جماعة أو سلطة.

واعتبرت العرنوس أنه إذا كان هدف التربية هو إنتاج طفل يكرر لا يفكر، فهي تربية موجهة وخطرة، أما إذا كان الهدف إنتاج طفل يفهم قبل أن يقرر، فهي تربية سليمة.

كما أوضح علوش أن التربية السياسية السليمة:

  • تنمّي القدرة على التفكير النقدي.
  • تعلم الطفل التمييز بين الرأي والمعلومة.
  •  تزرع فيه قيم المشاركة والمسؤولية والعدالة.
  • تُبنى على الأسئلة لا الإجابات الجاهزة.

وأضاف الاختصاصي التربوي، أن التربية السياسية تتميز عن التوجيه الحزبي بـ:

  •  التربية السياسية تفتح الأفق، أما التوجيه الحزبي فيُغلقه.
  •  التربية السياسية تعلم الطفل أن يسأل: لماذا؟ أما التوجيه الحزبي فيلقّنه: هكذا يجب أن تفكر.
  •  التربية السياسية تنمّي الانتماء للوطن والإنسانية، أما التوجيه الحزبي فيُختزل في الولاء لجهة واحدة.

ووجه علوش مجموعة من النصائح:

  •  لا تُحمّل الطفل مواقف الكبار.
  •  لا تستخدمه كناطق باتجاهات وعادات وتقاليد العائلة.
  •  شجّعه على الحوار، لا على التبعية.
  •  قدّم له نماذج من التاريخ والواقع تُظهر تنوع الآراء.

مخاطر التوجيه السياسي للأطفال

قالت الاستشارية النفسية الأسرية الدكتورة هبة كمال العرنوس، إن من أخطر ما يتعرض له الطفل نفسيًا هو تسييس وعيه قبل نضجه العقلي والانفعالي، فالإعلام الموجه والمناهج المؤدلجة قد:

  •  تخلق خوفًا مزمنًا وقلقًا وجوديًا.
  • تزرع الكراهية والعداء المبكر.
  • تعوق تطوّر التفكير النقدي.
  •  تفرض هوية قسرية على الطفل.

وأشارت الاستشارية النفسية الأسرية إلى أنه غالبًا ما يُستعاض عن التربية السياسية القائمة على فهم العلاقات الإنسانية والاجتماعية، بالتوجيه المباشر الذي يختزل الديمقراطية في شعارات، ويختزل الاختلاف في “العدو”، في حين أن التنشئة السليمة تعني تعليم الطفل:

  •  كيف يختلف دون أن يكره.
  • كيف ينتقد دون أن يخاف.
  •  كيف ينتمي دون أن يُلغي الآخر.

دور التربية والمناهج وتأهيل المعلمين

أكد اختصاصي التربية والمُجاز في المناهج وتقنيات التعليم الدكتور ياسر علوش، أن:

  •  التربية السياسية يجب أن تُعلّم الطفل كيف يفرّق بين المعلومة والدعاية.
  •  يجب أن تُعرّفه إلى مفاهيم مثل: الحرية، المسؤولية، التعددية، الحوار.
  •  تستخدم القصص والمسرح والألعاب التفاعلية لتوصيل هذه القيم دون تلقين.

ويرى علوش أن كثيرًا من المناهج العربية تركز على التلقين، وتغفل مهارات التفكير النقدي، أو تقدم مفاهيم سياسية مشوهة أو مؤدلجة، ما يؤدي إلى:

  • ضعف في مهارات الحوار.
  •  غياب القدرة على تحليل الأحداث.
  •  انغلاق فكري لدى الطلاب.

وقال علوش، إن العديد من القيم المطروحة توجد في المناهج بطريقة مبطنة يخشى المعلم طرحها بجرأة أو الإضاءة عليها، لذلك تنقل إلى الطلاب كمعلومة لا كقيمة.

وبحسب الاختصاصي التربوي، تكون الحلول ضمن المناهج من خلال:

  • إدماج مفاهيم المواطنة والحقوق والواجبات والتنوع والعدالة.
  • تدريب الطلاب على النقاش والمحاكاة واتخاذ القرار.

الاستشارية النفسية الأسرية الدكتورة هبة كمال العرنوس، أكدت أن المناهج الدراسية تلعب دورًا محوريًا في تشكيل وعي الطفل السياسي، سواء سلبًا أو إيجابًا، كما اعتبرت أن المعلم حلقة خطرة وحساسة، باعتبار أن المعلم غير المؤهل نفسيًا قد ينقل قناعاته الشخصية للطفل دون وعي.

وختمت الاستشارية بأن الطفل ليس مشروع مناضل ولا أداة سياسية، بل كائن في طور التكوين النفسي، معتبرة أن المجتمعات التي تُسيّس أطفالها مبكرًا، تدفع لاحقًا ثمن أجيال منقسمة، وغاضبة، وغير قادرة على الحوار.

أخبار متعلقة :